مفاوضات النظام الإيراني النووية: تكتيكات كسب الوقت بعد تفعيل آلية الزناد وعودة عقوبات مجلس الأمن
تُظهر التصريحات المتضاربة الصادرة عن كبار المسؤولين ووسائل الإعلام التابعة لنظام ولاية الفقيه صورة معقّدة ومضلِّلة للملف النووي. فالنظام لا يتعامل مع التفاوض كطريقٍ إلى حلّ نهائي، بل كأداةٍ لإدارة أزماته وكسب الوقت، رغم أنّ الإطار القانوني الدولي تبدَّل فعليًا بعد تفعيل آلية الزناد وإعادة تفعيل عقوبات مجلس الأمن المرتبطة بالبرنامج النووي. وبينما يصرّ وزير الخارجية عباس عراقجي على أنّ «الاتفاق النووي ما يزال حيًّا»، تكشف صحف النظام نفسها—على غرار صحيفة «كيهان»—أن الاتفاق «ميت» سياسيًا وقانونيًا، وأنّ الحديث عن إحيائه ليس سوى وهمٍ للاستهلاك.
في جلسة للجنة الأمن القومي في البرلمان، برّر عراقجي استمرار بقاء النظام شكليًا في الاتفاق بوجود «بنود نافعة لإيران»، محيلًا قرار الخروج النهائي إلى المجلس الأعلى للأمن القومي. غير أنّ هذا الخطاب يتجاهل حقيقة أساسية: قرار مجلس الأمن 2231 انتهت مظلته العملية مع تفعيل آلية الزناد، فعادت منظومة العقوبات الأممية إلى السريان، ولم يعد ممكناً الركون إلى حمايةٍ دوليةٍ سابقة كانت تؤمّنها أحكام 2231. كما أنّ الأطراف الغربية تعاطت مع خروقاتٍ منهجية، وأُعيد ترتيب قواعد الامتثال والقيود، بما يضيّق هامش المناورة أمام طهران. هنا لا يبدو التناقض بين الدبلوماسية الرسمية وخطاب التشدد مجرد اختلافٍ في الرأي؛ بل انعكاسًا لصراع أجنحة على توظيف الملف النووي في «حرب ذئاب» داخلية.
في موازاة ذلك، يحاول النظام الإيحاء بأنّ مسارات الوساطة تتقدّم: قطر لتسهيل قناةٍ غير مباشرة مع واشنطن، وروسيا بطرحٍ لنقل مخزون اليورانيوم المخصّب إلى أراضيها كضمانة، واليابان بملفاتٍ إقليمية، ومصر بدورٍ تقني مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية أدّى إلى استئناف بعض أنشطة التفتيش عقب لقاءٍ بين عراقجي ورافائيل غروسي في القاهرة (سبتمبر 2025). لكنّ هذه الاستجابات الجزئية تأتي بوضوح في سياقٍ تكتيكي: تخفيف حِدّة قراراتٍ مُدانة في مجلس المحافظين، وتقطيع الوقت تحت سقفٍ دولي صارم بعد إعادة العقوبات، لا تغيير مسار استراتيجي.
جوهر السياسة لم يتغيّر؛ وقد عبّر عنه رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف ونائبه علي نيكزاد في 4 نوفمبر 2025: اعتبرا أنّ العداء الأميركي «مبدأ ثابت»، وأن الملف النووي «ذريعة»، فيما الهدف «إخضاع الشعب الإيراني». في هذا الخطاب، لا تُستخدم الشعارات العدائية داخليًا فقط، بل تُتَّخذ ركيزةً لتبرير تشديد القبضة الأمنية وتسويق سردية «المؤامرة» ضد أي معارضة.
وحين تتعثر المناورة الدبلوماسية، يمضي النظام إلى التصعيد اللفظي أو التهديد بخياراتٍ عالية الكلفة. ففي تطوّرٍ لافت، طالب 63 نائبًا الرئيس مسعود بزشكيان بخططٍ لإغلاق مضيق هرمز؛ خطوةٌ نبّهت صحيفة «شرق» المحسوبة على الحكومة إلى أنّ ضررها سيصيب الاقتصاد الإيراني قبل العالمي، وهو ما يُظهر مجددًا عمق التباينات داخل بنية السلطة. لكنّ الأهم أنّ التلويح بأوراقٍ من هذا النوع يجري اليوم تحت مناخٍ قانوني دولي أشدّ قسوة بعدما عادت العقوبات الأممية، بما في ذلك القيود على التسليح والصواريخ وبعض المسارات المالية والكيانية، الأمر الذي يرفع كلفة أي تصعيدٍ ميداني أو نووي إضافي.
الخلاصة أنّ المفاوضات وصلت إلى انسدادٍ بنيوي لا مجرّد تعثّرٍ تكتيكي. فبعد تفعيل آلية الزناد وعودة منظومة العقوبات، تقلّصت مساحة المقايضات القديمة، فيما يواصل النظام استخدام الدبلوماسية كغطاءٍ لالتقاط الأنفاس، ويستند داخليًا إلى خطاب التعبئة والقمع. لذلك لا يُنتظر انفراجٌ حقيقي من إدارة أوراق الاتفاق وحدها؛ الأزمة في طبيعة منظومة الحكم التي لا ترى بقاءً إلا في خلق الأزمات وتدوير الخصومات. وفي ظلّ الإطار القانوني الدولي المحدث، يصبح زمن المناورة أقصر، وتغدو كلفة كل خطوة تصعيدية أعلى، فيما تبقى كلفة «الحل الواقعي»—أي التراجع عن مسارات التخصيب العالي والقبول برقابةٍ كاملة—أعلى سياسيًا على منظومةٍ تُعرِّف شرعيتها بالصراع لا بالتسوية.
إرسال التعليق