رحيل عبد الناصر والانفصال عن سوريا.
حمل شهر سبتمبر العديد من الذكريات الحزينة التي تركت أثرها السلبي على مصر والمنطقة العربية. ففي شهر سبتمبر اندلعت أحداث أيلول الأسود بين الفصائل الفلسطينية المسلحة برئاسة أبو عمار الزعيم التاريخي للثورة الفلسطينية والقوات الأردنية، والتي أدت إلى استشهاد آلاف المقاتلين الفلسطينيين وترحيل البقية الباقية إلى دول عربية أخرى وعلى رأسها تونس، واعتُبرت ضربة للمقاومة الفلسطينية في الأردن. وكان ترحيلهم إلى تونس يعد ضربة قاصمة للمقاومة لا تزال تعاني من آثارها حتى الآن، لأنها فقدت الجبهة الرئيسية التي انطلقت من خلالها لمهاجمة إسرائيل.
ولم تمضِ أيام قليلة على نجاح مصر بقيادة عبد الناصر في إخماد الفتنة بين الطرفين، إلا أن الخسارة الأكبر كانت رحيل عبد الناصر عقب نجاحه في إخماد تلك الفتنة. وبرحيل عبد الناصر فقدت مصر والأمة العربية الزعيم القائد الملهم الذي ألهمه الله كاريزما الزعامة ليقود أمتنا العربية في مواجهة التحديات التي تواجهها. ودخلت الأمة العربية بعد رحيله في دوامة من الفرقة والنزاعات وتفتتها إلى دويلات لا تزال تتقاتل فيما بينها حتى الآن، متناسية العدو الأساسي الذي فرّقها واستولى على ثرواتها. ولعل ما يحدث الآن في فلسطين والسودان هو خير دليل على ذلك.
ولا أبالغ إن قلت إن رحيل عبد الناصر كان الأثر الكبير فيما يحدث الآن، ورغم مرور 45 عامًا على رحيل عبد الناصر، فإن أيًّا من الرؤساء الذين خلفوه لم يستطيعوا أن يملأوا الفراغ الذي تركه، لأن الله خصه بالعديد من الخصال التي من الصعب أن يملأها أحد. .. فلقد حمل عبد الناصر مشروعًا لخدمة الطبقة المعدومة والمتوسطة من العمال والفلاحين التي تتمثل غالبية
ا قاد عبد الناصر مشروعًا تحريريًا لمقاومة الاستعمار والصهيونية، انزوت مصر لمعالجة شؤونها الداخلية وتسديد ديونها التي وصلت إلى 165 مليار دولار، محمِّلة الأجيال الحالية والقادمة أعباء ستتحملها أجيال وأجيال.
وإذا كان رحيل عبد الناصر يمثل خسارة لا تعوض بالنسبة لمصر والمنطقة والأمة الإسلامية، فإن أكبر تلك الخسائر كان انفصال سوريا عن مصر عام 1958، بعد انفصال قادته الرجعية والاستعمار. ومن الغريب أن يحدث هذا الانفصال في ذكرى رحيل عبد الناصر. لقد جسدت الوحدة بين مصر وسوريا حلمًا قويًا آمن به عبد الناصر كخطوة للوحدة العربية الشاملة في مواجهة الأطماع الاستعمارية نظرًا للروابط التاريخية التي ربطت بين الشعبين. وكان الانفصال نهاية لذلك الحلم الذي سعى إليه عبد الناصر.
وفي ظل هذا الانفصال استطاعت القوى الاستعمارية أن تحقق مطامعها في المنطقة العربية. ورغم الآثار السلبية لهذا الانفصال التي لا نزال نعاني منها حتى الآن، إلا أن الأحداث الراهنة والتحديات الخطيرة التي نواجهها تلزمنا برأب الصدع في العلاقات بين البلدين لمواجهة تلك التحديات. وللأسف، فإن هناك قوى داخلية وخارجية استغلت الأوضاع التي حدثت في سوريا عقب سقوط نظام بشار لمحاولة توسيع شقة الخلاف بين البلدين بدعوى سيطرة جماعات إسلامية متطرفة على السلطة في سوريا. وكان الأجدر بمصر في تلك الظروف أن تمد يدها إلى سوريا وترسل وفدًا للتفاوض مع النظام الجديد لإزالة الخلافات واستكشاف توجهات النظام الجديد. ولكن للأسف، فإن دعاة الفرقة وأعداء العروبة استغلوا تلك الأحداث لزيادة الفرقة بين النظامين، وهو ما امتد إلى معاملة الشعب السوري الذي جاء إلى مصر أملًا في الاستضافة التي تجسد الروابط بين الشعبين، ولكن للأسف انعكست الخلافات السياسية بين النظامين على معاملة الإخوة السوريين من خلال التضييق على إقامتهم والعمل على ترحيلهم، رغم أن ذلك يقتل مشاعر الوحدة التي صنعها الله بيننا.
وإنني، ومن منطلق انتمائي الإسلامي والعربي وحبي لسوريا وشعبها، أناشد الشعبين وحكومتي البلدين تجاوز تلك الخلافات، لأنه لا مستقبل لمصر بدون سوريا ولا مستقبل لسوريا بدون مصر. ورغم تلك المؤامرات، فإنني على ثقة بأن أي قوة لن تستطيع أن تفصل سوريا عن مصر ومصر عن سوريا، لأن ما وصله الله لا يمكن أن ينقطع مهما طال الزمن وتعاقبت المؤامرات…
مصطفى عماره…
إرسال التعليق